الرئيسيةأعداد المجلة تفاصيل الدراسة

ترشيد الانفتاح الثقافى من منظور التربية الإسلامية

المقدمة:
الحمدُ لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمدًا سرمديًّا أبَديًّا إلى يوم الدين، والصلاةُ والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين، وقائد الغر المحجَّلين، نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الغُرِّ الميامين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ:
فإن الدينَ الإسلامى هو دين العالمية، جاء للناس كافة؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، فالعالميةُ صفة تميَّزَتْ بها رسالةُ الإسلام، قال - عز شأنه -: ﮥ  ﮦ  ﮧ ﮨ  ﮩ    ﮪ  ﮫ  ﮬ  ﮭ  ﮮ       ﮯ  ﮰ [سورة سبأ: آية 28]، فكانتْ دعوة الإسلام دعوةً لكل العالمين دون تفرقة بسبب جنس أو لون أو عرق، يحارب الجمود ويدعو إلى التعارف والانفِتاح؛ قال تعالى: ﭵ  ﭶ  ﭷ     ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ   ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮁ    ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮇ  ﮈ   ﮉ  ﮊ [سورة الحجرات: آية 13]، فالإسلامُ بهذا دعا إلى الانفِتاح على ثقافات وحضارات الأمم الأخرى، وأرسى قواعد وضوابط على أساس من التفاعل الإيجابى والانتقاء الواعى لكل ما هو مفيدٌ ونافعٌ للمسلم، ويتضح ذلك فى قول رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" (الترمذى، 1395هـ، 51).
وحينما دخَل المسلمون البلاد المختلفة فى أقطاب الأرض - مع تنوع ثقافاتها، واختلاف طِباعِها - تعرفوا على ما كان نافعًا ومفيدًا لهم فى مجالات الحياة المختلفة، واستفادوا منه، وتركوا ما خالف قيمهم ومبادءهم الإسلامية، فقدموا نموذجًا حضاريًّا للانفِتاح الثَّقافى؛ لأنَّ (البحث عن الحكمة والعلم والاستفادة من خبرات الآخرين يساعد على التعرف على مكامن الخير وأصوله لدى الآخر، فيتم تنميته والاستفادة منه، والتعرف على الشر فيُعالج أو يُتقى، وكل ذلك يُساعد على تحقيق الأهداف البعيدة التى يعمل الإسلامُ مِنْ أHHجْلِها، وهى توحيد الإنسانية على عبادة الله، وأن يكون الدين كله لله) (الكيلانى، 1407هـ ،10).
مشكلة الدِّراسة:
فى ظِلِّ تسارُع الأزمات وتعدُّد تحديات العصر والانفِتاح على الثقافات العالمية، نجد أن بعضًا من المسلمين يقيمون علاقتهم مع الحضارة الغربية على أساسٍ مِن التقليد السلبى، والانبهار الشديد، الذى يؤدِّى إلى الانجذاب إلى هذه الحضارة بكل رموزها، دون انتقاء، وهذا بلا شك يُؤَدِّي إلى فقدان الثقة بالنفس، والشعور بالدُّونِيَّة، ومِنْ ثَمَّ التبعيَّة للغرب (شبل، 1417هـ،269).
وفى الواقع المعاصر انتشرتْ وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة؛ كالقنوات الفضائية، وشبكة الإنترنت، وأصبح مِن السهولة الانفِتاح على شعوب العالم المختلفة، ووصول كم هائل من الثقافات المنفتحة على الأمة، والتى من أهم خصائصها سهولةُ انتقالها، فهى تصل إلى المنازل من غير تكلفة، وتغزو العقول بأساليبَ وطُرُق جديدة ومبتكَرَة، وتأثر بها الصغير والكبير، والمرأة والرجل؛ مما يُشَكِّل خطورة على الهُوِيَّة والقِيَم والمبادئ الإسلامية.
لذلك فإنَّ الحاجة أصبحتْ ضروريةً وماسَّةً للانفِتاح الثَّقافى الرشيد، حيث أوْصَتْ دراسة أجريت عام 1429هـ  (عدوان، 1429هـ، 132)، بدعم الاتجاه الوسطى للانفِتاح الثَّقافى؛ لما له مِن دَوْرٍ فى إحياء الأمة ودَعْم مَسيرتها وتطويرها والمحافظة على ثوابتها الإسلامية، وتعتبر الدِّراسة الحاليةُ نتيجة وتطبيقًا لهذه التوصية فى دعم وتطوير الاتجاه الوسطى للانفِتاح الثَّقافى.
أسئلة الدِّراسة:
وفى ضوء ما سبَق تبلورتْ مشكلة الدِّراسة فى السؤال الرئيس الآتى:
ما مفهوم ترشيد الانفتاح الثقافى من منظور التربية الإسلامية؟
ويتفرع عن هذا السؤال الأسئلة التالية:
  1. ما مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من المنظور الإسلامى؟
  2. ما ضوابط الانفتاح الثقافى من منظور التربية الإسلامية؟
أهداف الدِّراسة:
تتحدد أهداف الدِّراسة على النحو التالى:
  1. توضيح مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من المنظور الإسلامى.
  2. إبراز ضوابط الانفِتاح الثَّقافى من منظور التربية الإسلامية.
أهمية الدِّراسة:
تحددتْ أهمية الدِّراسة على النحو التالى:
  1. تحدد الضوابط التربويَّة الإسلامية للتعامل مع الانفِتاح الثَّقافى.
  2. تبرز قدرة التربية الإسلامية على الانفِتاح على ثقافات الأمم والشعوب الأخرى دون المساس بالعقيدة والقيم والمبادئ الإسلامية.
  3. تأمل الباحثة أن تفيد الدِّراسة المجتمع الإسلامى لبناء جيل مسلمٍ يعتز بدينه ويحافظ على هُويته الإسلامية.
منهج الدِّراسة:
اتبعت الدِّراسة المنهج الوصفىَّ، وهو "المنهج الذى يرتبط بظاهرة معاصرة بقصد وصفها وتفسيرها" (العساف، 1426هـ، 189)؛ وتبرز أهمية المنهج الوصفى فى أنه يُستَخْدَم فى دراسة الموضوعات الإنسانية، ولا يهدف إلى وصف الظواهر، أو وصف الواقع كما هو، بل يهدف للوصول إلى نتائج تسهم فى فهم الواقع وتطويره (عبيدات، 1433هـ ،177).
وقد قامت الباحثةُ بجَمْع المادة العلمية المتعلقة بترْشيد الانفِتاح الثَّقافى وتنظيمها وتحليلها، لمعرفة مفهوم ترشيد الانفتاح الثقافى من المنظور الإسلامى وأهم الضوابط التربوية الإسلامية للانفتاح الثقافى.
كما سارت الدِّراسة وفق الطريقة الاستنباطية، وهى "الطريقة التى يقوم فيها الباحثُ ببذل أقصى جهد عقلى ونفسى عند دراسة النصوص؛ بهدف استخراج مبادئ تربوية مدعمة بالأدلة الواضحة" (فودة وآخرون، 1412هـ،42)؛ وقد قامت الباحثةُ باستنباط واستخراج الضوابط التربوية الإسلامية للانفِتاح الثَّقافى.
حدود الدِّراسة:
الحدود الموضوعية:
تتحدد الدِّراسة مِن حيث الموضوعُ فى ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من المنظور الإسلامى، وإبراز ضوابط الانفتاح الثقافى من منظور التربية الإسلامية.
 
مُصطلحات الدِّراسة:
  1. ترْشيد:
الترْشيد فى اللغة: جاء فى المعجم الوسيط أنه "من الفعل (رشد) رشدًا، اهتدى فهو راشد، (استرشد له) اهتدى له" (الزيات، د.ت، 85).
ويُعرف فى الاصطلاح: هو ذلك السلوك المُوَجَّه نحو تحقيق أهداف محددة فى الإطار المفروض عليه (بدوى، 1402هـ، 346)، والترْشيد الثَّقافى هو ترْشيد يتبناه المرء تمده به ثقافته(الصالح، 1420هـ، 441)، والمقصود بالترشيد فى هذه الدراسة هو السلوكيات والإجراءات التى تقوم بها الأسرةُ فى التعامل مع الانفتاح دون إفراط ولا تفريط  مما يحقق الحفاظ على الهوية الإسلامية.
  1. مفهوم الانفِتاح الثَّقافى:
أ- الانفِتاح:
الانفِتاح فى اللغة: "الفَتْحُ: نَقِيضُ الإِغلاقِ، فَتَحه يَفْتَحه فَتْحًا وافْتَتَحه وفتَّحَه، وكلُّ مَا انْكَشَفَ عَنْ شَىْءٍ فَقَدِ انْفَتَحَ عَنْهُ وَتَفَتَّحَ، وتَفَتُّحُ الأَكَمة عَنِ النَّوْر: تَشَقُّقُها، والفَتْحُ: افْتِتَاحُ دَارِ الْحَرْبِ، وَجَمْعُهُ فُتُوحٌ، والفَتْحُ: النَّصْرُ" (ابن منظور،1414هـ، 537).
وفى الاصطلاح: عرفه السلمى بأنه "الاطلاع والاستفادة مما عند الآخرين، وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها" (السلمى، 1430هـ، 225).
ب- الثقافة:
الثقافة فى اللغة: "(ث ق ف): ثَقِفْتُ الشَّىْءَ ثَقَفًا مِنْ بَابِ تَعِبَ أَخَذْتُهُ، وَثَقِفْتُ الرَّجُلَ فى الْحَرْبِ أَدْرَكْتُهُ وَثَقِفْتُهُ ظَفِرْتُ بِهِ، وَثَقِفْتُ الْحَدِيثَ فهمته بسرعة" (الحموى، د.ت، 82).
وأما فى الاصطلاح: فهى نظام كلىٌّ متشابك ومركَّبٌ، يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات والتقاليد وجميع العناصر التى يكتسبها الإنسانُ باعتباره عضوًا فى المجتمع (أبويحيى وآخرون، 1421هـ، 13).
وقد أشار أبو سليمان إلى أن الانفِتاح الثَّقافى "هو الاستفادة العلمية والفنية الصحيحة من الغير، دون المساس بالقيم، والعقائد، والمبادئ، والهُوِيَّة" (أبوسليمان، 1429هـ، 90) ومن ذلك فالمقصودُ بالانفِتاح الثَّقافى فى هذه الدِّراسة والمراد ترْشيده ووضع الضوابط له هو: الاطلاع على المعارف والقيم والأفكار والعادات والتقاليد للأمم والشعوب، عبر وسائل الاتصال الحديثة.
ومن ثم فالمقصود بترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى الدِّراسة هو ما ذكره (أبو سليمان)، والذى أشارتْ له الباحثة آنفًا؛ وهذا هو ما تبنته الدِّراسة الحالية.
الدراسات السابقة:
1) دراسة عدوان (1429هـ)، بعنوان: "ملامح الانفِتاح الثَّقافى فى الفكر التربوى الإسلامى"، هدفت الدِّراسة إلى: التعرُّف على مفهوم الانفِتاح الثَّقافى فى ضوء الفكر التربوى الإسلامى، وإبراز أهم الاتجاهات المُعاصِرة نحو الانفِتاح الثَّقافى، وإبراز أهم الانعكاسات التربويَّة على العملية التعليمية، واستخدمت الباحثة المنهج الوصفى، ومن أهم نتائج الدِّراسة: ضرورة إعداد المعلم المعاصر القادر على التفاعل مع تغيرات العصر وفق ما يلائم مجتمعاتنا الإسلامية لبناء جيل قادر على النهوض بالحضارة الإسلامية، ولابد من وضع تصور لمناهج إسلامية تواكب تغيرات وتقلبات العصر، وتحافظ على القيم والمبادئ الإسلامية.
2) دراسة جليسة (1428هـ)، بعنوان: "دور التربية الإسلامية فى مواجهة الانفِتاح الإعلامى الفضائى"، وقد هدفت الدِّراسة إلى: توضيح مفهوم الانفِتاح الإعلامى الفضائى، والكشف عن موقف التربية الإسلامية، وكيفية مواجهتها لآثار ومخاطر هذا الانفِتاح، ثم ذكر البديل من قنوات إعلامية تقوم على أسس إسلامية، وبيان دور المؤسسات التربويَّة المختلفة فى مواجهتها لآثار الانفِتاح الإعلامى الفضائى، واستخدمت الباحثة المنهج الوصفى، ومن أهم النتائج: ضرورة توافر قنوات إسلامية عربية تكون منابر لتعريف شعوب العالم بالدين الإسلامى القويم، وإيجاد بدائل عربية تهدف إلى الحفاظ على هُوية الشخصية الإسلامية العربية والثقافة العربية، وأن الأقمار الصناعية الإسلامية والعربية ضرورة إعلامية وأساسية وإستراتيجيَّة لتأمين الإرسال الإذاعى والتلفزيونى الإسلامى الهادف.
التعقيب على الدراسات السابقة:
تشابهت الدِّراسة الحالية مع دراسة (عدوان، 1429هـ) ودراسة (جليسة، 1428هـ) فى تناولها لموضوع الانفِتاح الثَّقافى.
واختلفت الدِّراسة الحالية عن دراسة (عدوان، 1429هـ)، حيث هدفتْ إلى معرفة مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من المنظور الإسلامى، فى حين أن دراسة (عدوان، 1429هـ) هدفت إلى إبراز أهم الانعكاسات التربويَّة للانفِتاح الثَّقافى على العملية التعليمية، ولم تتطرق إلى معرفة مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى، كما اختلفت الدِّراسة الحالية عن دراسة (جليسة، 1428هـ) فى توضيح مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى ومعرفة الضوابط التربوية الإسلامية للانفِتاح الثَّقافى، فى حين أنَّ دراسة (جليسة، 1428هـ) هدفتْ إلى توضيح مفهوم الانفِتاح الإعلامى الفضائى، ثم ذكر البديل من قنوات إعلامية تقوم على أسس إسلامية.
واستفادت الدِّراسة الحالية مِن دراسة (عدوان، 1429هـ) فى توضيح مفهوم الانفِتاح الثَّقافى فى ضوء الفكر التربوى الإسلامى، ومعرفة بعض ضوابط الانفِتاح الثَّقافى، كما استفادت مِن دراسة (جليسة، 1428هـ) فى الكشف عن موقف التربية الإسلامية من الانفِتاح الإعلامى الفضائى، وكيفية مواجهتها لآثار ومخاطر هذا الانفِتاح.
وتفردتْ الدِّراسة الحالية عن الدراسات السابق ذكرها فى ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من منظور التربية الإسلامية، وإبراز الضوابط التربويَّة الإسلامية للانفِتاح الثَّقافى.
المبحث الثانى: ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى من المنظور الإسلامى
تمهيد:
إنَّ المتأمل فى الواقع المعاصر يجد انفِتاحًا واسعًا وكبيرًا على الثقافات والحضارات المختلفة والمخالفة للإسلام، وقد ساعد على ذلك وسائل الاتصال الحديثة، فساعدتْ على توصيل هذه الثقافات بكل يُسر وسهولة؛ مما كان له التأثير الكبير على الأجيال المُسْلِمة؛ لذا كان لزامًا ترْشيد هذا الانفِتاح الثَّقافى الواسع، وهذا ليس دعوة إلى الانغلاق، ولكن إلى التوازن فى الانفِتاح لتحقيق الانفِتاح الثَّقافى الرشيد الإيجابى، بدون إفراط ولا تفريط، وعليه يمكن للباحثة توضيح مفهوم ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فيما يلى:
أولاً: مفهوم ترشيد الانفتاح الثقافى:
تعددتْ مفاهيم الانفِتاح الثَّقافى فى كثير مِن الدراسات؛ لذا تسعى الباحثة إلى إبراز هذه المفاهيم لتصل للمعنى المراد لترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى هذه الدِّراسة.
أشار أبو سليمان إلى الانفِتاح الثَّقافى بقوله: "الاستفادة العلمية والفنية الصحيحة دون مَساس بالقيم، والعقائد، والمبادئ، والهُوية" (أبو سليمان، 1429هـ، 192).
ويعرفه ابن مانع بأنه: "عدم اتخاذ الفرد موقفًا سلبيًّا مما هو جديد عليه، سواء ماديًّا، أو معنويًّا لمجرد أنه جديد، بحيث يتقبل هذا الجديد ويتفاعل معه حتى يثبت له بطرق معقولة عدم فائدة التعامل مع هذا الجديد" (ابن مانع، 1412هـ، 100).
مما سبق يتضح أن المفاهيم السابقة قد أشارتْ إلى مفهوم الانفِتاح الثَّقافى والاستفادة من الغير مع التمسك بالهُوية الإسلامية والتعامل الصحيح مع ثقافات الآخرين، واتخاذ الموقف الإيجابى منها ومن ثم فإن هذه المفاهيم تعبر عن الانفتاح الرشيد المنضبط.
وبذلك فإن المقصود بترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى الدِّراسة هو ما ذكره (أبو سليمان)، والذى أشارت له الباحثة آنفًا؛ وهذا ما تبنته الدِّراسة الحالية.
ثانياً: ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى القرآن الكريم:
لقد أرسى القرآن الكريم قواعد الانفِتاح الثَّقافى وأسسه؛ قال تعالى: ﭵ  ﭶ  ﭷ     ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ   ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮁ    ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮇ  ﮈ   ﮉ  ﮊ [سورة الحجرات: آية 13]، قال أبو بكر الجزائرى فى تفسيره: "جعلناكم شعوبًا وقبائل وبطونًا وأفخاذًا وفصائل، كل هذا لحكمة التعارف، فلم يجعلكم كجنس الحيوان، لا يعرف الحيوان الآخر، ولكن جعلكم شعوبًا وقبائل وعائلات وأسرًا؛ لحكمة التعارف المقتضى للتعاون؛ إذ التعاون بين الأفراد ضرورى لقيام مجتمع صالح سعيد" (الجزائرى، 1424هـ، 131).
كما أن هناك آيات عديدة تُبين الترْشيد فى القرآن الكريم، والاستفادة العلمية من الآخر، دون المساس بالدين كالانفِتاح الثَّقافى المرشّد عند هدهد سليمان – عَليهِ  الصَّلاَةُ  وَالسَّلاَمُ - حينما ذهب إلى مملكة سبأ، ورأى الملك العظيم، وجاء إلى سليمان - عَليهِ  الصَّلاَةُ  و َالسَّلاَمُ - مخبرًا بما رآه؛ قال تعالى: ﭑ ﭒ  ﭓ    ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ   ﭚ  ﭛ [سورة النمل: آية ٢٣]، قال سيد قطب – رحِمَهُ الله –: "أوتيت من كل شىء كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع، ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (؛ أى سرير ملك فخم ضخم، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة" (قطب، 1412هـ، 2638)، فهذا اعترافٌ صريح من الهدهد بعظمة عرشها وملكها،مما يدل على الاعتراف بالاخر والانفتاح معه، وجاء الترْشيد فى قوله تعالى: ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ     ﭡ   ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ     ﭫ  ﭬ  ﭭ [سورة النمل: آية 24]، "وهنا يعلّل ضلال القوم بأن الشيطان زّين لهم أعمالهم فأضلهم" (قطب، 1412هـ، 2638)، فهذا دليلٌ على الانفِتاح على الآخر دون المساس بالعقيدة والدين.
ولقد وضَّح القرآن الكريم كيفية ترْشيد وضبط الانفِتاح الثَّقافى لتكوين العقلية الواعية والمتفتحة أمام الثقافات والأفكار المختلفة، وذلك من خلال عدة أمور؛ منها: الحث على النظر والتفكر، ورفض التقليد المذموم والتبعيَّة، وتعرض الباحثة ذلك بشىء من التفصيل على النحو التالى:
  1. الحث على النظر والتفكُّر:
حثَّ القرآنُ الكريمُ فى العديد من الآيات على النظر والتفكُّر فى الكون، وما فيه من مخلوقات، والنظر فى أحوال الأمم السابقة والانفِتاح على قصصهم وحياتهم؛ لأخْذ العِظَة والعبرة، وليس الانكفاء على الذات والانغلاق، دون معرفة أحوال الآخرين، قال تعالى : ﯼ  ﯽ  ﯾ  ﯿ    ﰀ  ﰁ     ﰂ ﰃ  ﰄ   ﰅ   ﰆ  ﰇ  ﰈ  ﰉ   ﰊ  ﰌ  ﰍ ﰎ  ﰏ    ﰐ  ﰑ   ﰒ  ﰓ  ﰔ   ﰕ  ﰖ  ﰘ     ﰙ  ﰚ  ﰛ[سورة فاطر: آية 44]، "يحض تعالى على السير فى الأرض للاعتبار لا لمجرد النظر والغفلة، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل" (السعدى، 1426هـ، 691)، كما حثَّ القرآن الكريم على التَّدَبُّر والنظر فى أخبار السابقين، وكيف كان مصيرهم بعد أن ضلوا عن منهج الله لأخذ العظة من الماضى للحاضر الذى يعيشه الإنسان؛ قال تعالى: ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ    ﮛ  ﮜ  ﮝ  ﮞ  ﮟ     ﮠ ﮡ  ﮢ [سورة آل عمران: آية 137]، قال سيد قطب - رحِمَهُ الله -: "إن القرآن ليربط ماضى البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها، وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولا معارفهم ولا تجاربهم – قبل الإسلام – تسمح لهم بهذه النظرة الشاملة، لولا هذا الإسلام الذى أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا" (قطب، 1412هـ، 479)، ومن ثم فإن الانفِتاح على أحوال الآخرين وتجاربهم والنظر والتأمل فى أحوالهم ومآلاتهم يكوِّن الوعى والإدراك بكل ما هو مفيد، والإقبال عليه، والابتعاد عن كل ما يقبح ويسوء.
  1. رفض التقليد المذموم والتبعيَّة:
يرفض القرآن الكريم طريقة التبعيَّة غير الواعية والتقليد بدون دليل، ويحث على سلوك الطريق الصحيح على وعىٍٍ وبصيرةٍ؛ قال تعالى: ﮀ  ﮁ   ﮂ  ﮃ  ﮄ     ﮅ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ [سورة يوسف: آية 108]، قال ابن كثير - رحِمَهُ الله - فى تفسيره: "يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بصيرة ويقين وبرهان شرعى وعقلى" (ابن كثير، 1420هـ، 422)، كما نهى القرآن الكريم أيضًا عن التقليد المذموم، وقد وصف حال المشركين فى رفضهم للإسلام فى قوله تعالى: ﭑ  ﭒ    ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ [سورة البقرة: آية 170].
ويقول الصافى: "وانبنى التنديدُ القرآنى بالموقف الآبائى على أن هذا الموقف يعكس رؤية منغلقة على ذاتها، رافضة للنظر فى أطروحات الخطاب المنزل، وتعقل مضمونه والحكم عليه، من خلال تقويم محتواه، قياسًا بمحتوى التصور الموروث عن الآباء " (الصافى، 1419هـ، 86).
يتضح مما سبق أن القرآن الكريم جاء فيه ما يدل على الاطلاع والانفِتاح على الأمم السابقة وعلى الأمم المُعاصِرة لنشأة الإسلام؛ مثل: فارس والروم، وعلى حضاراتهم وسلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم، وجعل من قصصهم ومواقفهم عبرة وعظة لأولى الألباب؛ مما يدل على الرؤية الإيجابية المنفتحة على الآخرين، من خلال الأخْذِ مِن الغير بوعىٍ وتمحيص، وليس مجرد التلقِّى والقبول والتقليد مِن غير دليلٍ.
ثالثًا: ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى السيرة النبَوية:
وفى السيرة النبوية ما يدُلُّ على ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى على الأمم الأخرى؛ فقد كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صاحب المنهج الانفِتاحى الرشيد والنظرة المتوازنة غير المتعصبة، فكان فى توجيهاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أروع الأمثلة والأدلة على الانفِتاح الثَّقافى الرشيد على الثقافات الأخرى؛ فعن أنس بن مالك - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - قال:  "كتب النبى صلى الله عليه وسلم كتابًا - أو أراد أن يكتب - فقيل له: إنهم لا يَقرَؤونَ كتابًا إلا مَختومًا، فاتَّخَذ خاتَمًا من فِضَّةٍ، نقشه: محمدٌ رسولُ اللهِ، كأنى أنظُرُ إلى بَياضِه فى يدِه" (البخارى، 1395هـ، 24)، ففى هذا الحديثِ دلالةٌ واضحة على المنهج النبوى فى الانفِتاح الثَّقافى، وهو منهج وسط ومتوازنٌ بعيد عن التطرف والتعصب؛ فقد اتخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتمًا من فضة، ولم يتخذ خاتمًا من ذهب، وجعل الختم مكتوبًا فيه محمد رسول الله دلالة على التمسك بالعقيدة الإسلامية فى انفِتاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الآخر.
وفى غزوة الخندق حينما أشار سلمان الفارسى - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفر الخندق، ولم يكن حفر الخندق معروفًا عند العرب، وإنما كان من فنون الفرس فقال: "يا رسُول الله، إنا كنا بفارس إذا حُوصرنا خَندقنا علينا، فعَمل فيه رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمُون معه حتى أحكموه" (الثعلبى، 1422هـ، 13)، فلم يرفض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجة أنها من فنون الفرس، وأنهم من غير المسلمين، ولكن استفاد من تجارب وخبرات الأمم الأخرى فى الأمور الدنيوية، وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفره، وأيضًا عمل فيها.
وقد أرسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قواعد الانفِتاح الثَّقافى ومبادئه على أساس من النظرة الإيجابية والتعامل الواعى مع الآخر، فحثَّ على الاستفادة من الحكمة أينما كان مصدرها، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحِكْمَةُ ضالَّةُ المؤمنِ، فحيثُ وجدها فهو أَحَقُّ بها" (الترمذى، 1384هـ، 51).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حدِّثوا عن بَنى إسرائيلَ، ولا حرَجَ" (أبو داوود، د،ت، 322)، يدل دلالة واضحة فى الحث على الاطلاع على الثقافات الأخرى، والتعامل الإيجابى معها، وإباحة نقلها ونشرها.
فانفِتاح الرسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الثقافات المختلفة فى المجالات الدنيوية والاستفادة منها كان دليلاً كبيرًا على الانفِتاح الثَّقافى الرشيد، الذى يكون انفِتاحًا وفق قيم ومبادئ الإسلام، "وقد انعكس هذا بوضوح على تاريخ المسلمين بعد ذلك؛ فإنهم عندما خرجوا من جزيرتهم العربية ينشرون رسالة الإسلام التى وكلوا بنشرها شرقًا وغربًا، وصادفوا مدنية وحضارة فى بعض ما صادفوا لم يطمسوها أو يدمروها، بل عكفوا على دراستها والاستفادة منها، وأخذوا ما فيه النفع لهم، وما يقره دينهم الحنيف فى وقت كانت الحضارة اليونانية لا تخاطب إلا أبناءها، ولا تأخذ إلا من علمائها، وكذلك الحضارة الفارسية والهندية والصينية" (السرحانى، 1430هـ، 46).
رابعًا: ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى فى الفكر التربوى الإسلامى:
فتح المسلمون بلاد فارس والروم، وفيهما حضارة عريقةٌ، وقد اقتبسوا منها فى المجال الدنيوى عددًا من المعارف والنظم التى لم تكن معروفة مِن قَبْلُ لدى المسلمين، ومن ذلك اقتباس عمر بن الخطاب - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - من الحضارات السابقة للإسلام بعض النظُم التى ساعدته على تنظيم الدولة الإسلامية؛ وذلك " لما قدم أبو هريرة - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - من البحرين إلى المدينة أخبر عمرَ - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - بأنه جاء بمال كثير يقدر بخمسمائة ألف درهم، نادى فى الناس - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه -، وجمعهم وأخبرهم بمقدم أبى هريرة، وما أتى به من المال الكثير، وقال لهم: إن شئتم كلنا لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عدًّا، وإن شئتم وزنَّا لكم وزنًا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يدونون ديوانًا، فدوِّن لنا أنت ديوانًا، فدوّن عمر بن الخطاب الديوان" (البلاذرى، 1408هـ، 436)، وبذلك لم يمتنعْ عمر بن الخطاب - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - من الاستفادة من علوم العجم، بل استفاد منها لتطوير شؤون دولته، مما يبين رؤيته الإيجابية - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - للانفِتاح على الآخر.
وهكذا كان موقف المسلمين الأوائل من الثقافات الأخرى، موقفاً يتميَّز بالمنهجية العلمية والعقلية المتفتحة الواعية، وامتثلوا أمرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما قال: "الحِكْمَةُ ضالَّةُ المؤمنِ، فحيثُ وجدها فهو أَحَقُّ بها" (الترمذى، 1384هـ، 51) ، فأخذوا من الثقافات المختلفة الصالح والنافعَ مِن العلوم التجريبية؛ كالطب، والهندسة، والفلك، وغيرها، ولم يتأثروا بالجانب الأخلاقى والسلوكى لهذه الأمم، وقاموا بتوجيه هذه العلوم الوجهة الإسلامية التى تقوم على منفعة العالم أجمع لا لفساده.
إن الانفِتاح الثَّقافى فى الإسلام يتَّسم بالانفِتاح الذى ينطلق من العزة بالإسلام، والتميز فى الهُوية الإسلامية، وليس التبعيَّة أو التقليد الأعمى، فكان انفِتاح المسلمين على خبرات وحضارات الآخرين وفْق قِيَم ومبادئ الإسلام، وكان موقفهم أمامها موقفًا إيجابيًّا بمعنى أنهم يأخذون ما فيه النفْع والفائدة، ثم يخضعونه لعملية النقد والتمحيص، ثم يُطَوِّرونه ويضيفون عليه، ويتركون ماعدا ذلك؛ (فقد انفتحوا على الحضارة الإغريقية، لكنهم لم يأخذوا بقوانينهم ولم يترجموا الإلياذة، ولا روائع الأدب اليونانى الوثنى، وكفاهم معرفة تدوين الدواوين وترجمة العلوم الطبيعية، كما انفتحوا على الحضارة الفارسية، لكنهم تجنَّبوا مذاهبها الهدامة، واستفادوا من الأدب الفارسى والتراتيب الإدارية عندهم، كما انفتحوا على الحضارة الهندية، لكنهم نَحَّوْا فلسفتها وأديانها، وأخذوا حسابها وفلكها وحفظوه وطوروه وأضافوا إليه الكثير، وإن ما استفاده المسلمون مِن الحضارات الأخرى يُعَدُّ مزية تحسب لهم وليس عيبًا؛ إذ يعنى ذلك تفتح العقل المسلم واستعداده لتقبُّل ما لدى الآخرين، كما أنَّ الإسهام فى مسيرة الإنسانية يبدأ بآخر ما وصل إليه الآخرون، ثم تقديم الجديد) (السرحانى،1430هـ، 48).
يتبين مما سبق أن المسلمين أخذوا من هذه الثقافات المختلفة كل ما يتفق مع روح دينهم، وما ينفعهم فى حياتهم، ورفضوا سائر القيم والمبادئ الغربية المخالفة لدينهم والعقائد الباطلة، وكان الأخْذ والرفض بضوابط راسخة، تنطلق من المحافظة على الهُوية الإسلامية والثقة فى النفس بعيدة عن الانهزامية والهوان، وقد قدم المسلمون الأوائل النموذج الأمثلَ فى الانفِتاح الثَّقافى الرشيد والمتوازن مع ثقافات وحضارات الأمم الأخرى.
المبحث الثالث: ضوابط الانفتاح الثقافى من منظور التربية الإسلامية:
أولا: أهمية ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى:
يكتسب ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى أهميته من عناصر القوة فى الثقافة الإسلامية، وهو التفاعل الثَّقافى المرن والمتوازن والمتفتح، خاصة فى عصر التدفُّق الإعلامى والتقنى، وما يحمله من ثقافات متعددة ومختلفة؛ ولذلك يمكن بيان الأهمية فى النقاط التالية:
1- المحافظة على تميُّز المجتمع المسلم:
إن المسلم أثناء انفِتاحه الثَّقافى فى حاجة وضرورة إلى إدراك التميز الإسلامى، وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحِمَهُ الله - حقيقة التميز ومعناه مبينًا حاجة المسلم إلى هداية الصراط المستقيم وهو سبيل التميز، وقد قال: "وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحكمة التى هى سنته، وهى الشرعة والمنهاج الذى شرعه الله، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم فى الهدى الظاهر لأمور منها: أن المشاركة فى الهدى الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة فى الأخلاق والأعمال"  (ابن تيمية، 1419هـ، 44)، كما أشار – رحِمَهُ الله – أن التشابه الظاهر فى اللباس والعادات لا بد أن ينتج عنها موالاة ومحبة فى الباطن، وهى أمور دنيوية، فكيف إذا كان هذا التشابه فى أمور دنيوية، والتى قد تصل إلى الأمور الاعتقادية والفكريَّة والتأثر باعتقاداتهم الباطلة، فيقول: "فإذا كانت المشابهة فى أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة فى أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافى الإيمان" (ابن تيمية، 1419هـ، 44-45).
وإنَّ الواقع المعاصِر يشهد تحديات إعلامية وثقافية وتربوية؛ ومِنْ ثَمَّ يلزم وجود عقلية واعية تتعامل مع ما يقدم فى وسائل الإعلام بكل ثقة واعتزاز بدينها، وعدم انغلاق على ذاتها؛ مما يُحقق الحفاظ على تميز المجتمع المسلم، فالمجتمعُ المسلمُ الحق هو الذى يدعو إلى الوسطية، وهى الروح المميزة للمجتمع المسلم؛ قال تعالى: ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ [سورة البقرة: آية 143]، فالوسطيةُ مما يميز الإسلام فهو دين الوسط؛ لذلك جعلهم اللهُ شهداء على الناس، وأيضًا مما يميز التربية الإسلامية أنها مُستمَدَّة من تعاليم دين الإسلام السمحة فهى تربية وسطية متميزة، تُسهم فى رسم المنهج الوسط الأمثل فى التعامل مع المسلمين وغيرهم.
2- وسيلة لبناء المناعة الذاتية أمام التدفق الإعلامى والتقنى:
من أعظم مقومات الأمة الإسلامية جمعها بين المناعة الذاتية والانفِتاح؛ قال تعالى: ﯲ  ﯳ  ﯴﯵ  ﯶ  ﯷ ﯸﯹ ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯾ  ﯿ  ﰀ [سورة إبراهيم: آية 24]، فالجانب الوقائى فى التربية الإسلامية يعتبر سياجًا للمسلم من الوقوع فى الرذائل الخلقية والتربية السيئة (الحازمى، 1420هـ، 60)؛ لذلك فإن الأجيال إذا نشأتْ على التمسك بدين الله والالتزام به ومراقبة الله فى السرِّ والعلَن، تصبح لديها مناعة ذاتية وقائية ضد أى أفكار أو قيم مخالفة للإسلام، والمناعة الذاتية من أهم الوسائل لمواجهة الثقافات المعادية.
3- وسيلة للرقى الحضارى:
إن ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى يحثُّ على التمسك بشريعة الإسلام قولاً وعملاًَ؛ مما يُؤَدِّى إلى المشاركة فى البناء الثَّقافى والحضارى والإسهام الإيجابى فى إقامة مجتمع رشيد حضارى تتحقَّق فيه خيريةُ الأمة الإسلامية؛ كما قال تعالى: ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤ      ﭥ  ﭦ  ﭧ   ﭨ  ﭩ  ﭫ  ﭬ   ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭳ  ﭴ    ﭵ  ﭶ [سورة آل عمران: آية 110]، فـ "المُشاركة فى البناء الحضارى المعاصر علميًّا وفكريًّا لن تكون بنبذ تعاليم الإسلام، أو التقليل من الدور الذى أداه تراثه العظيم فى تكوين الأمة التى مكنت لنا الوقوف - بعزة وكرامة - بين أمم الأرض، وسيظل التراث المورد الأصيل الذى نعود إليه كلما تعددتْ بنا السبُل، وتفرَّقت بنا المناهج التى رفضتها" (حمدان، 1415هـ، 145)، كما أن المشاركة فى البناء الحضارى لن تكون برفض كل جديدٍ، والانكفاء والانغلاق على الذات؛ وإنما تكون بالانفِتاح الرشيد المتوازن ليتحققَ الرقىٌّ الحضارى، والمشاركة الإيجابية التى تتطلب انفِتاحًا لا يفقد الأصالة وأخذًا لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية؛ حتى لا يُؤَدِّى إلى الانغلاق الفكرى الذى يفقد الدور المطلوب من الأمة.
إنَّ استقراء تاريخ الحضارات يؤكِّد على أنه ليس ثمةَ حضارة إنسانية قامتْ واستمرتْ مع التاريخ وهى فى حالة انغلاق على الذات، أو انعزال عن الآخرين، وإن مما يقوى الحضارات ويفتق قوى الإبداع فيها تواصلَ تلك الحضارات مع سواها، ومن الأمثلة التى تؤكد دور الانفِتاح الرشيد فى النهوض الحضارى والرقى؛ انفِتاح المسلمين الأوائل على الحضارات المُعاصِرة لهم؛ كالهندية، والفارسية، واليونانية، واستمدادهم منها كل ما هو إيجابى وفعال فى تحقيق نهضتهم وإشادة حضارتهم (شبل، 1420هـ، 274)، فالتواصلُ الحضارىُّ ضرورة لا بد منه لتقدُّم ورقى المجتمعات، فجميع مجالات التقدم فى شتى العلوم والمعارف كانتْ نتيجة للتعاوُن والتلاقح الفكرى والثَّقافى المتوازن بين المجتمعات، فالانغلاقُ والتعصُّب لم ولن يكونا معولى بناء وحضارة فى تاريخ الأمة، وكذلك الانفِتاح غير المنضبط على ثقافات الأمم الأخرى لن يبنى الأمم، بل يجعلها تتصف بالتبعيَّة للآخرين، وهذا خلاف ما جاءتْ به التربية الإسلامية؛ فهى "تربية تقوم على الانفِتاح والأصالة، فأنتجت الحضارة الإسلامية بعلومها المتعددة وفنونها وآدابها ونظمها الإنسانية المتميزة "(النقيب والهنيدى، 1424هـ، 424-425)؛ لذلك فهى تربية حضارية قادرةٌ على الاستفادة من التراث الحضارى للأمة الإسلامية، وقادرة أيضًا على الانفِتاح المنضبط على الخبرات الحضارية الأخرى.
ثانيًا: ضوابط الانفِتاح الثَّقافى من منظور التربية الإسلامية
لقد تبيَّن مما ذكر آنفًا أهمية أن يكونَ الانفِتاحُ مُنضبطًا بالضوابط الإسلامية، إذ إنَّ هذه الضوابط تُمَثِّل دورًا وقائيًّا لأفراد المجتمع المسلم، ولقد كانتْ واضحةً جليةً فى تعامل المسلمين فى القرون الأولى للإسلام مع غيرهم من الأمم والشعوب المختلفة، ويمكن للباحثة إبراز ضوابط الانفِتاح الثَّقافى من منظور التربية الإسلامية كما يلى:
1- أن يكون الانفِتاحُ بعد غرْسِ العقيدة الصحيحة:
فغرس العقيدة الصحيحة قبل الانفِتاح يعمل على "تحرير العقل والفكر من التخبُّط الفوضوىِّ الناشئ عن خُلُوِّ القلب من هذه العقيدة؛ لأنَّ مَن خلا قلبه منها؛ فهو إما فارغ القلب من كل عقيدة، وعابد للمادة الحسِّيَّة فقط، وإما متخبط فى ضلالات العقائد والخرافات" (العثيمين، 1412هـ، 66)؛ لذا نجد أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكث عشر سنين بمكة ينزل عليه القرآن، وكان فى غالبه ينصب على البناء العقدى حتى إذا ما تمكنت العقيدةُ فى نفوس أصحابه - رُضوان اللَّه عَليهمْ - نزلت التشريعات الأخرى بعد الهجرة إلى المدينة.
إنَّ غرس العقيدة الصحيحة فى نفوس الأبناء مهمة عظيمة، وهى مِن أعظم وأجل المهمات التى ينبغى على الوالدين غرسها فى أبنائهم؛ ليكون الإسلام عقيدة ومنهجَ سلوك، يتصلون به فى كل زمان ومكان، وخاصة غرس العقيدة الإسلامية فى ظِلِّ الانفِتاح؛ لأنه يترتب على غرسها الثقةُ بدين الله وأحكامه وشرائعه، ورفض كل ما يخالف ذلك، "فالانفِتاح المفيدُ يكون بعد تصوُّر عقيدة الإسلام وأحكامه تصورًا صحيحًا والثقة بها، ورَدّ كل ما يُخالفها من عقيدة أو عمل، أما الانفِتاح قبل العلم فإنه مزْلَقٌ خطير يجعل صاحبه يتخبط فى الأفكار والمناهج والفلسفات" (السلمى، 1429هـ، 226)، ويتضح ذلك جليًّا فى نهْى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب - رَضِىَ اللَّهُ عَنْه - والإنكار عليه عندما رأى فى يده صحائف من التوراة فقال له: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، والذى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَىْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، والذى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِى" (الشيبانى، 1421هـ، 349)، فلِمَ كان هذا الاشتداد فى الإنكار؟ ما ذلك إلا لأنه كان فى مرحلة التأسيس والتكوين للعقيدة والملة، ولا ينبغى أن يشوشَ عليها فى هذه المرحلة الخطيرة حتى تترسخَ أسسها ويقوم بنيانها" (القرضاوى، 1421هـ، 72)، وهذا يدلُّ على أهمية دور العقيدة قبل الانفِتاح على الثقافات المختلفة، فعقيدةُ التوحيد تُعين على التفكير السليم البعيد عن الخرافات والأوهام، فيعيش الإنسانُ آمنًا مُطمئنًا أثناء مواجهته للثقافات المختلفة المخالفة للشريعة الإسلامية، والتى تسبِّب الحيرة والاضطراب، (فيملأ التوحيد نفس المؤمن أمنًا وطمأنينة، فلا يرهب أحدًا إلا الله، ولهذا نرى الموحد بالله آمنًا إذا خاف الناس، مطمئنًا إذا قلق الناس، وهادئًا إذا اضطرب الناس) (على وآخرون، 1426هـ،72)؛ قال تعالى: ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ    ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ     ﭚ  ﭛ [سورة الأنعام: آية ٨٢].
2- أن يكونَ الانفِتاح مع الاستشعار بعزة الإسلام:
وذلك بأن يكون التفاعل والتعامل مع الغرب من موقع العزة بالإسلام، وهى حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية، فالعزةُ والقوةُ ليست بكثرة الأموال والتقدم الاقتصادى والتقنى، ولكن العزة لله ولرسوله ولمَنْ أعَزَّه الله من المؤمنين الذين تمسكوا بتعاليم دينهم، ولم يخالفوا أمر ربِّهم؛ قال تعالى:ﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ     ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮔ  ﮕ    ﮖ  ﮗ  ﮘ   ﮙ    ﮚ    ﮛ [سورة المنافقون: آية 8]، قال الزمخشرى فى تفسيره: "ولله العزة؛ أى: الغلبة والقوة ولمَنْ أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المَذَلَّة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين" (الزمخشرى، 1407هـ، 543)، وقال الزحيلى: إن العزة: "هى الشعور بالسمو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه" (الزحيلى، 1418هـ، 226)، فيصاحب الانفِتاح الاستشعار بعزة الإسلام وعزة المسلمين، ولا تعنى العزة: الكبر أو التعالى على الآخرين، ولا تعنى أيضًا: الذل والمهانة، فالعزةُ هى وَسَطٌ بين الكِبْر والذُّل، قال الرازى فى وصف ذلك: (قال بعض العارفين فى تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحلُّ للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه، فالعزةُ معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيويةٍ، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلها) (الرازى، 1420هـ، 549)، ولذلك فإن معرفة المسلم بمفهوم العزة أمر ضرورى، ومطلب هام؛ ليتمكَّنَ مِن الوقوف بكل ثقة واعتزاز أمام المتَغَيِّرات والتَّحَدِّيات العديدة.
وقد أكَّد سيد قطب أنَّ استشعار حقيقة العزة لله كفيلة حين تستقر فى القلوب أن تبدلَ المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط، وتقوم بتعديل القيم والموازين وتعديل النهج والسلوك، ويكفى أن تستقرَّ هذه الحقيقة وحدها فى أى قلب لتقفَ به أمام الدنيا كلها عزيزًا كريمًا ثابتًا (قطب،1412هـ، 2930)، وخاصة أمام الانفِتاح الكبير على الثقافات والحضارات المختلفة والمخالفة لتعاليم الإسلام.
ويتبين مما سبق أن استشعار عزة الإسلام هى حالة قلبية تملأ القلب رضًا وطمأنينة وثقة بالإسلام، وإذا استقر فى القلب فإنه يُؤثِّر على الجوارح، فبالانفِتاح على ما لدى الغرب من ثقافات مختلفة مع استشعار هذه العزة  يتحقق ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى عن طريق التمسك بقيم مبادئ الإسلام والدفاع عنها.
3- الانفِتاح دون الانبهار السلبي بثقافة الغير:
إن الانفِتاح الثَّقافى مع الانبهار السلبى هو الانفِتاح المحذور؛ حيث وصفَه القرضاوى بقوله: (هو الانفِتاح المبهور بثقافة الآخر حين ينظر إليه مضخمًا من شأنه، مُعَظِّمًا من فكره، شاعرًا بالدُّونِيَّة تجاهه لسبب أو لآخر، فكل ما قاله هذا الآخر فهو صِدْق، وكل ما رآه فهو صواب، وكل ما فعله فهو جميل؛ أى إنه أضفى عليه نوعًا من (التأليه) بالفعل، وإن لم يكن تأليهًا بالقول) (القرضاوى، 1412هـ، 76)، فمع التقدُّم السريع للغرب فى المجالات المادية، وتفوُّقهم فى ذلك، وتحقيق نجاحات ومستويات عالية، وتأخر الدول الإسلامية فى هذه المجالات، وضعْف اعتنائهم بها أدَّى إلى الانبهار السلبى بما لدى الغرب، والذى ترتب عليه التقليد والتبعيَّة بكل ما تنتجه الحضارة الغربية المُعاصِرة؛ "لأنَّ المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب فى شعاره، وزيه ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده، والسبب فى ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه" (ابن خلدون، 1427هـ، 157)، وإن الحضارة الغربية فيها من الإيجابيات التى يمكن الأخذ بها، وأيضًا فيها من السلبيات التى يجب ترْكها والإعراض عنها، دون الانبهار بها وبفِكْرها وثقافتها وتقاليدها التى تهدِّد هُوية الأمة الإسلامية.
وإن الانبهار السلبى قد يدفع إلى الانهزامية النفسية، وعدم الثقة بالذات، ومن ثم التقليد الأعمى، فـ"الانبهار بالغير يَدُلُّ على ضعف شخصية المنبهر، وهزيمة نفسه، وقصور فكره، ومن كانت هذه حاله فلن يتجاوزَ التقليد المجرد" (السلمى، 1429هـ، 229)، ويذكر محمود سفر أنَّ الانبهار ليس عيبًا فى ذاته، وإنما العيب فى تأثيره على الإبداع والإنتاجية فيقول: (ولا عيب فى هذا بذاته، إنما العيب أن يسيطرَ الانبهار على الفرد والأمة؛ فتغشى الأبصار ولا ترى إلا بمنظور تلك الحضارة، وتتوقف العقول عن التفكُّر إلا اعتمادًا على عقول تلك الحضارة، فيسقط التبصر، ويمحى التفكير، وتلهث الأنفاس خلف عالم الأشياء فى الحضارة الغربية، ولا تهدأ حتى تنال بغيتها منه، دون أن تُسهمَ فى صنعِه، أو تشارك فى إنتاجه) (سفر، 1429هـ، 47).
فترى الباحثة أن الانبهار قد يصاحب الناظر والمتأمل فى الحضارة الغربية المُعاصِرة ولكن ينبغى ألا يكونَ انبهارًا سلبيًّا يُفقد المسلم فِكْرَه وسلوكَه وثقافته الإسلامية، بل يدفعه هذا الانبهار إلى العمل والجِدِّ والإبداع والمشاركة فى البناء الحضارى للمسلمين.
4- القدرة على الانتقاء الواعى:
إنَّ المسلم الواعى له شخصيته المتميزة، وليس إمَّعَةً يسير مع الآخرين، حيث ساروا ، وهذا شأنُه عند الانفِتاح على الثقافات الأخرى المختلفة يأخذ ما كان صالحًا، ويدَع ما يخالف منهجه الإسلامى، له القدرة على الانتقاء والاختيار، فيكون لديه حِسٌّ نقدىٌّ عند الانفِتاح وانتقاء ذكي واعٍ عند الأخْذ والتَّرْك، وفى الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا " (الترمذى، 1384هـ، 51)، وهو" أنَّ الكلمة المفيدة التى لا تنافى نصوص الشريعة ربما تفوه بها من ليس لها بأهل، ثم وقعتْ إلى أهلها، فلا ينبغى للمؤمن أن ينصرفَ عنها، بل الأولى الاستفادة منها والعمل بها من غير التفات إلى قائلها" (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، د.ت، 358)، فالحكمة والمعرفةُ المفيدة قد تأتى من أهل الباطل؛ فينبغى الانتقاء الواعى والاختيار من العلوم والمعارف والاستفادة منها.
ولقد كان موقف المسلمين الأوائل موقفًا يتميز بالانتقاء والإضافة والتصحيح والنقد والاستبعاد لكل ما لا تُثبته الأدلة والبراهين العقلية الصحيحة، وفى التاريخ الإسلامى توجد من الأمثلة التى تؤكد هذه النظرة الانتقائية الواعية والحس النقدى وفق قيم ومبادئ الإسلام؛ (فقد انفتحوا على الحضارة الإغريقية، لكنهم لم يأخذوا بقوانينهم ولم يترجموا الإلياذة ولا روائع الأدب اليونانى الوثنى، وكفاهم معرفةً تدوين الدواوين وترجمة العلوم الطبيعية، كما انفتحوا على الحضارة الفارسية، لكنهم تجنَّبوا مذاهبها الهدامة، واستفادوا من الأدب الفارسى والتراتيب الإدارية عندهم، كما انفتحوا على الحضارة الهندية، لكنهم نحوا فلسفتها وأديانها، وأخذوا حسابها وفلكها وحفظوه وطوروه، وأضافوا إليه الكثير) (السرجانى، 1430هـ، 48)؛ ولذلك يتبين قدرة المسلمين على الانتقاء من الحضارات والثقافات المختلفة بوعى وإدراك.
الخاتمة: نتائج الدِّراسة: 
ومِن خلال مُعالَجة موضوع الدِّراسة على النحو السابق توصلت الباحثة إلى مجموعة من النتائج، وهى كالتالى:
  1.  أن الإسلام أرسى قواعدَ وأسسَ ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى، وما هذا إلا تأكيد واضحٌ على أهمية ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى، وأنه الركيزة الأساس للتكامُل الإنسانى.
  2. أن ترْشيد الانفِتاح الثَّقافى لا يعنى الذوبان فى الثقافات الأخرى أو الانغلاق دونها بل الاستفادة منها مع المحافظة على الهُوية الإسلامية.
  3. ضوابط الانفِتاح الثَّقافى تمثل جانبًا وقائيًّا فى التربية الإسلامية؛ حيث تحمى من الوقوع فى الانحرافات والرذائل الخلقيَّة.
  4. غرس العقيدة الإسلامية قبل الانفِتاح بمثابة دورٍ وقائىٍّ فى تكوين المناعة الذاتية.
  5. أنَّ الانبهار قد يصاحب الناظر والمتأمل فى الحضارة الغربية، ولكن ينبغى ألا يكون انبهارًا سلبيًّا يُفقد المسلم فكره وثقافته الإسلامية، بل يدفعه هذا الانبهار إلى الإبداع والمشاركة فى البناء الحضارى للمسلمين.
  6. الغرب يعتمد على الانتقاء والاختيار من بين الثقافات، والمسلمون أولى بهذا.

المراجع:
  1. ابن تيمية، أحمد. (1419هـ). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، دار عالم الكتب: بيروت،ج2، ص44.
  2. ابن خلدون، عبد الرحمن. (1427هـ). مقدمة ابن خلدون، مكتبة القرآن: القاهرة، ص157.
  3. ابن كثير، إسماعيل بن عمر. (1420هـ). تفسير القرآن العظيم، ط2، دار طيبة للنشر والتوزيع: الرياض، ج4، ص422.
  4. ابن مانع، سعيد بن على. (1412هـ). المسايرة والمغايرة، معهد البحوث العلمية: مكة، ص100.
  5. ابن منظور، محمد بن مكرم. (1414هـ). لسان العرب، ط3، دار صادر: بيروت، ج2، ص537.
  6. أبو داود، سليمان بن الأشعث.(د، ت). سنن أبى داود، باب الحديث عن بنى إسرائيل، رقم الحديث 3662، المكتبة العصرية: بيروت، ج3، ص322.
  7. أبو سليمان، عبد الحميد، أزمة العقل المسلم، مرجع سابق، ص192.
  8. أبو يحى، محمد وشهوان، راشد والكيلانى، عبد الرحمن والعوايشة، أحمد وغيظان، يوسف ومحمد. (1421هـ). الثقافة الإسلامية ثقافة المسلم وتحديات العصر، دار المناهج: عمان، ص13.
  9. البخارى، محمد بن إسماعيل، صحيح البخارى، مرجع سابق، باب ما يذكر فى المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، رقم الحديث 65، ج1، ص24.
  10. البلاذرى، أحمد. (1408هـ). فتوح البلدان، دار ومكتبة الهلال: بيروت، ص436.
  11. الترمذى، محمد بن عيسى. (1395هـ). سنن الترمذى، ط2، باب ما جاء فى فضل الفقه على العبادة، رقم الحديث 2687، مكتبة مصطفى البابى: مصر،ج5، ص51.
  12. الثعلبى، أحمد. (1422هـ). الكشف والبيان عن تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربى: بيروت، ص13.
  13. الجزائرى، أبو بكر جابر.(1424هـ). أيسر التفاسير لكلام العلى الكبير، ط5، مكتبة العلوم والحكم: المدينة المنورة، ج5، ص131.
  14. الحازمى، خالد. (1420هـ). أصول التربية الإسلامية، عالم الكتب: الرياض، ص60.
  15. الحموى، أحمد .(د، ت). المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير، المكتبة العلمية: بيروت، ج1، ص82.
  16. الرازى، أحمد، معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق، ج2، ص398.
  17. الرازى، محمد بن أبى بكر.(1420هـ). مختار الصحاح، ط5، الدار النموذجية: بيروت، ص233.
  18. الزحيلى، وهبة. (1418هـ). التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج، ط2، دار الفكر المعاصر: دمشق، ج28، ص 226.
  19. الزمخشرى، محمود. (1407هـ). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ط3، دار الكتاب العربى: بيروت، ج4، ص543.
  20. الزيات، أحمد ومصطفى، إبراهيم وعبد القادر، حامد والنجار، محمد. (د، ت). المعجم الوسيط، دار الدعوة: القاهرة ، ج1، ص85.
  21. السرجانى، راغب. (1430هـ). ماذا قدم المسلمون للعالم؟، ط2، مؤسسة اقرأ: القاهرة، ص46.
  22. السعدى، عبد الرحمن. (1426هـ). تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان، ط2، دار ابن الجوزى: الدمام، ص691.
  23. السلمى، عبد الرحيم. (1430هـ). الانفتاح الفكرى حقيقته وضوابطه، مجلة الأصول والنوازل، الرياض، ع1، ص225.
  24. الشيبانى، أحمد بن حنبل .(1421هـ). مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم الحديث 15156، مؤسسة الرسالة، ج23، ص349.
  25. الصافى، لؤى .(1419هـ). إعمال العقل، دار الفكر: بيروت، ص 86.
  26. الصالح، مصلح.(1420هـ).الشامل قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب: الرياض، ص441.
  27. العثيمين، محمد. (1412هـ).نبذة فى العقيدة الإسلامية، دار الثقافة: مكة المكرمة، ص 66.
  28. العساف، صالح بن حمد. (1426هـ). المدخل إلى البحث فى العلوم السلوكية، ط4، مكتبة العبيكان: الرياض، ص189.
  29. القرضاوى، يوسف. (1421هـ). ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، دار الشروق: القاهرة، ص72.
  30. الكيلانى، ماجد. (1407هـ). أهداف التربية الإسلامية، دار التراث: المدينة المنورة، ص10.
  31. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. (د.ت). فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الأولى، رئاسة إدارة البحوث العلمى والإفتاء: الإدارة العامة للطبع: الرياض، ج26، ص358.
  32. النقيب، عبد الرحمن والهنيدى، جمال. (1424هـ). قراءات فى التربية الإسلامية، مكتبة الرشد: الرياض، ص424-425.
  33. بدوى، أحمد زكى. (1402هـ). معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان: بيروت، ص 346.
  34. جليسة، سمر. (1428هـ). دور التربية الإسلامية فى مواجهة الانفتاح الإعلامى الفضائى، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، كلية التربية، مكة المكرمة.
  35. حمدان، عاصم حمدان. (1415هـ). نحن والآخر، دار العلم: جدة، ص 145.
  36. سفر، محمود، دراسة فى البناء الحضارى (محنة المسلم مع حضارة عصره)، مرجع سابق، ص47.
  37. شبل، أحمد أبو الفتوح. (1417هـ). الانفتاح الحضارى مبرراته - شروطه - ومتطلباته التربوية، مجلة كلية التربية بجامعة المنصورة ، ع34، ص269.
  38. عبيدات، ذوقان. (1431هـ). البحث العلمى مفهومه وأدواته وأساليبه، ط12، دار الفكر: عمان، ص177.
  39. عدوان، ناريمين فضل. (1429هـ). ملامح الانفتاح الثقافى فى الفكر التربوى الإسلامى، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، كلية التربية، غزة، ص132.
  40. فودة، حلمى وعبد الله، عبد الرحمن. (1412هـ). المرشد فى كتابة الأبحاث، ط6، دار الشروق: جدة، ص42.
  41. قطب، سيد. (1412هـ). فى ظلال القرآن، ط17، دار الشروق: بيروت، ج5، ص2638.

المزيد من الدراسات